جبا - متابعات
دخل العراق في ستة استحقاقات انتخابية برلمانية، منذ عام 2005 وحتى اليوم.. لكن المشهد السياسي لم يشهد تحولات حقيقية في الوجوه المؤثرة أو في موازين القوى. بقيت الأحزاب المهيمنة تعيد إنتاج نفسها عبر تحالفات متغيرة في الشكل وثابتة في الجوهر، بينما بقيت القوائم تضم الأسماء نفسها، وكأن عقارب الساعة السياسية متوقفة منذ عقدين. هذا التكرار، مقترناً بتراجع نسب المشاركة الشعبية، كشف عن أزمة ثقة عميقة بين المجتمع العراقي ومنظومته الانتخابية، بحيث أصبحت صناديق الاقتراع مساحة مغلقة لصالح جمهور الأحزاب وموالينها، في مقابل عزوف متزايد لعموم الناخبين المستقلين.
ويقول الباحث في الشأن السياسي جاسم الغرابي "، أن تكرار الوجوه الانتخابية يمثل عاملًا مباشرًا في تعزيز المقاطعة. إذ يقول: "تكرار نفس الوجوه المرشحة من قبل الأحزاب السياسية في كل دورة انتخابية يعد من أبرز الأسباب التي قد تؤدي إلى زيادة حالة العزوف الشعبي عن المشاركة في الانتخابات".
هذا التوصيف يلتقي مع قراءات بحثية متخصصة ترى أن غياب التجديد السياسي يخلق حالة من "الإحباط المتراكم"، حيث يربط المواطن بين الأداء السياسي الضعيف وبين إعادة ترشيح نفس الشخصيات التي لم تحقق تطلعاته. تؤكد تحليلات قانونية معمقة أن الدستور العراقي وإن كان يضمن التعددية، إلا أن غياب آليات تتيح صعود كفاءات مستقلة يجعل الممارسة الانتخابية أشبه بإعادة تدوير للنخبة الحاكمة.
شهدت أول انتخابات برلمانية بعد 2003 نسبة مشاركة تجاوزت 58%، لكنها أخذت مسارًا تنازليًا حادًا، وصولًا إلى أدنى مستوى في انتخابات 2021 بنسبة 41% فقط، فيما سجّلت مؤشرات أخرى مشاركة لا تتجاوز 18% من مجموع الناخبين، بحسب تقديرات مستقلة. هذه الأرقام تكشف أن المواطن العراقي العادي ابتعد عن صناديق الاقتراع، تاركًا المجال مفتوحًا أمام جمهور الأحزاب المنظمة.
وفي هذا السياق، يضيف الغرابي: "الناخب العراقي بات يشعر بغياب التجديد والإصلاح الحقيقي، نتيجة استمرار نفس الشخصيات التي لم تحقق تطلعات المواطنين في السابق، مما يضعف الثقة بالعملية الانتخابية ويزيد من الإحباط العام".
تشير المداولات الدستورية إلى أن نسبة المشاركة المنخفضة تطرح إشكاليات حول شرعية التمثيل، وتجعل البرلمان أقرب إلى انعكاس لسلطة الأحزاب من كونه مؤسسة تعكس الإرادة الشعبية.
المعضلة لا تكمن فقط في تكرار الوجوه، بل في إقصاء الطاقات الجديدة. إذ يؤكد الغرابي: "غياب الوجوه الجديدة والكفاءات المستقلة يحرم الساحة السياسية من دماء جديدة قادرة على تقديم حلول مبتكرة للأزمات الاقتصادية والاجتماعية والخدمية".
هذا الرأي يجد دعمه في مقاربات مؤسساتية حديثة ترى أن استقرار النظام السياسي لا يتحقق فقط عبر تداول السلطة شكليًا، بل عبر إدماج نخب جديدة قادرة على مواجهة التحديات. تُظهر التجارب المقارنة أن إدخال الشباب والكوادر المستقلة في العملية السياسية يرفع مستويات المشاركة، فيما يؤدّي غيابهم إلى انغلاق النظام على نفسه.
توضح الدراسات الميدانية أن غالبية المصوتين اليوم هم من قواعد الأحزاب المنظمة، التي تحافظ على نسب ثابتة من الأصوات رغم تراجع المشاركة العامة. هذا يعني أن الناخب العراقي المستقل أو المتردد بات خارج المعادلة عمليًا، وأن الانتخابات تحوّلت إلى منافسة مغلقة بين أتباع القوى المهيمنة. وبحسب تقديرات سياسية حديثة، فإن "العزوف الشعبي" لا يُضعف شرعية الأحزاب بقدر ما يعزز قدرتها على السيطرة عبر جمهورها الصلب، وهو ما يفاقم الفجوة بين الدولة والمجتمع.
بين مقاطعة شعبية متنامية ووجوه انتخابية مكررة منذ عقدين، تقف العملية السياسية العراقية أمام اختبار وجودي. نفي إمكانية التغيير عبر صناديق الاقتراع بات شعورًا راسخًا لدى شرائح واسعة من المجتمع، بينما تستفيد الأحزاب من هذا الإحباط لترسّخ حضورها عبر جمهورها المنظم. إن غياب الكفاءات الجديدة، واستمرار إعادة تدوير الوجوه، يضعف فكرة الدولة المدنية القائمة على المشاركة الواسعة، ويفتح الباب أمام شرعية شكلية تستند فقط إلى الولاء الحزبي. وإذا لم تُفتح القوائم أمام الشباب والطاقات المستقلة، فإن الانتخابات ستظل انعكاسًا للأزمة أكثر من كونها أداة لحلها.